المساعدات الغذائية والسلطة في السودان – هل حان وقت التغيير أم الترسيخ؟

لأول مرة في عقود من الزمان أصبح للسودان فرصة حقيقية لتحقيق التغيير السياسي والإقتصادي. لقد أدت ثورة ديسمبر لعام 2019 إلى تشكيل حكومة إنتقالية عازمة على دعم حقوق الإنسان والمفاوضات السلمية بالإضافة إلى عقدها لإنتخابات ديمقراطية.  إن البرمجة بصورة مراعية للنزاعات مهمة في هذه الفترة وذلك لعدة أسباب: 1. يمر السودان بعدة أزمات متداخلة بعضها سياسية وأخرى إقتصادية أو صحية، بالإضافة إلى النزاعات المتواصلة وعمليات النزوح المطولة بدارفور، زيادة على تدفقات اللاجئين. 2. إن المعونات الغذائية جزء مهم من المساعدات الإنسانية وقد تم التلاعب بها بصورة كبيرة في الماضي. 3. إن البيئة السياسية الجديدة تفتح الفرصة لتحقيق أقصى قدر ممكن من الآثار الإيجابية للمساعدات الغذائية.

قام إستعراض الأمم المتحدة العام للحاجات الإنسانية لعام 2021 بإصدار تقدير بلغ فيه عدد الأفراد المحتاجين إلى المساعدات الإنسانية بالسودان في عام 2021 ال 13.4 مليون شخص، وهو ما يقارب ثلث شكان البلاد الكليين. تتضمن المساعدات الغذائية المقررة التحويلات النقدية والمنتجات الغذائية المخصصة ولكن تظل المعونات المصدرة على شكل منتجات غذائية هي الغالبية الكبرى من ناحية الإنفاق المالي.  إن هذه المساعدة ذات الحجم الهائل الغير إعتيادي هي مواصلة للدعم الإنساني السنوي الذي بدأ منذ عام 1984 بالإضافة لكونها إمتدادًا لتاريخ أطول من إستلام المساعدات الغذائية يرجع لعام 1958- بعد عامين فقط من إستقلال السودان. إن الدروس التي إكتسبناها من هذه الحقبة تبرز إمكانية إضعاف قدرة المساعدات الغذائية على إنقاذ الحياة البشرية ودعم المعايش عن طريق التأثر بالأولويات السياسية والإقتصادية للجهات الدولية والقومية بالإضافة إلى القيود اللوجيستية.

تهدف هذه المدونة للعمل على بدأ محادثة فيما يتعلق بالدروس التي تم إكتسابها من تجارب المعونة الغذائية في عهد النظام السابق زيادة على مناقشة ما إذا كانت المساعدات الغذائية لا زالت تلعب دورًا في العمليات السودانية السياسية والإقتصادية ومناقشة أثارها على التخطيط البرمجي المراعي للنزاعات.

بإمكان المعونات الغذائية تعزيز أوجه اللامساواة

لقد ظل السودان منذ عهد قديم دولة حافلة بنسب عالية من اللامساواة، حيث تتركز أغلب السلطة والثراء في أيدي نخبة مركزية. عانت أطراف السودان مثل دارفور وكردفان وولاية البحر الأحمر (بالإضافة إلى جنوب السودان سابقًا) من نزاعات مطولة ومجاعات متكررة وأزمات إنسانية.  وبمرور الزمن ساهمت المساعدات الغذائية في تعزيز عمليات التنمية ذات الطابع التمييزي  وحدث ذلك بصورة صريحة نتيجة دعمها للنظام ولاحقًا بصورة غير مباشرة عن طريق توفير دعم للميزانية بالإضافة لدعم مؤسسات قطاع خاص موالية للحكومة.

تضمنت مساهمات المساعدات الغذائية في دعم النظام السابق- المعونات الغذائية المزودة عن طريق الولايات المتحدة الأمريكية (رغم أنها كانت مصنفة كقرض في وقتها وليس كمنحة) والتي أستعملت كأداة سياسة خارجية لمجابهة النفوذ السوفيتي بمصر والحكومات الإشتراكية التي نشأت في فترات لاحقة بمصر وليبيا. كما تضمنت أيضا مساعدات برنامج الغذاء العالمي في مراحله الأولى. عملت المعونات الأمريكية الغذائية بتشكيل أساس الدعم الحضري للخبز بالإضافة إلى الإستفادة من جزء من الأموال الناتجة من بيعها في دعم الزراعة التجارية في وسط السودان.

في حقبة ثمانينات القرن الماضي وتزامنًا مع المجاعات المتصاعدة واللاجئين والحرب، تحول تركيز المساعدات الغذائية إلى دعم إستجابة الطوارئ وعلى دعم أطراف السودان- مع توزيع المساعدات بواسطة المنظمات الدولية.  لقد كانت هذه إستجابة مهمة لقضية المجاعة والأزمة ولكنها قد حافظت في نفس الوقت على إستمرار جوانب اللامساواة. ويعزى ذلك أولاً إلى أنه ومع تلاعب الحكومة بسعر الصرف أصبحت المساعدات الغذائية (وهي التي كانت تشكل اساس المساعدات المقدمة وقتها) تمد البنك المركزي السوداني بالعملة الصعبة. أما ثانيًا فإنه وبإستثناء إقليم درافور في الفترة ما بين عام 2004-2005 فقد وصلت المساعدات الغذائية إلى الفئات المتضررة بالقدر الذي تم التخطيط له ولكنها قامت بدعم شركات مرتبطة بالحكومة في وسط السودان (قم بمراجعة المصادر أدناه)  السؤال المطروح هو: ما مدى أهمية المساعدات الغذائية كمورد للحكومة والأطراف السياسية وإستعاملها كمصدر تمويل ورعاية سياسية مع هذا التغير في شكل الحكم والأشكال الجديدة لإيرادات المساعدات والحكومة؟

 كيفية إرتباط المساعدات الغذائية بالعمليات السياسية والإقتصادية

إنه وعلى مر الأزمات السودانية نجد أنه قد تم تحويل المساعدات الغذائية لإطعام قوات الجيش أو لأجل توفير الدعم للحكومات المحلية مع منع وصولها للمناطق المتنازع عليها.  إن بإمكان السلطات المحلية والأطراف المتحاربة التلاعب بالمساعدات الغذائية عن طريق سلبها أو فرض الضرائب عليها أو عن طريق تضخيم عدد المستفيدين لأجل الحصول على مقدار أكبر من المساعدات.  إضافة إلى أن التحكم في عملية توزيع الغذاء يساهم في تعزيز الحالة السياسية. لقد كانت هذه السياسات شائعة في الحرب الطويلة في جنوب السودان ولدرجة أقل بدارفور (كمثال:  في المخيمات أو المناطق المدارة من قبل المتمردين).  قامت عملية شريان الحياة المدارة بواسطة الأمم المتحدة  بالتوافق على إتاحة وصولها للفئات المتضررة كما قامت بوضع قواعد أساسية لتضمن توزيع المساعدات بصورة متوافقة مع المبادئ الإنسانية. لقد أثبتت التجارب السابقة أن مشاكل الإستغلال الخاطئ والإستثناءات هي قضايا صعبة الحل، وذلك لعدم التوازن في ديناميات السلطة ونسبة لتواصل عزل الحكومة السودانية كإستراتيجية لمجابهة الثورة المضادة.  كيف تغيرت إستراتيجيات المساعدات الغذائية وكيف يمكن أن تتأقلم في المستقبل لتقليل هذا الأمر؟

إضافة لذلك فإن تقييد المساعدات الغذائية ينتج فوائد للتجار والمزارعين.  إنه وتحت وطأة نظم الحكم السابقة قد إستفادت الحكومات والقطاع الخاص من المجاعات وذلك نسبة لإرتفاع أسعار الغذاء مع زيادة مبيعات الأراضي والماشية والنزوح (من جنوب السودان إلى كردفان كمثال) وهو ما يخلق مصدرًا للعمالة الزراعية الزهيدة. ساهمت المساعدات الغذائية في ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي في بدور في هذه المشكلة حيث قام التجار الموالون للحكومة والناقلون بتأخير نقل المواد الغذائية بالإضافة لشحنهم لمقدار أقل مما تم التخطيط له. إن إحدى القضايا المهمة التي لا بد من إستكشافها هي ما إذا كانت الأسواق لا يزال يتلاعب بها، والسبب في ذلك وما إذا كان للمساعدات الغذائية أي دور في الأمر.

تأتي المساعدات الغذائية مصاحبة لبنية لوجستية أساسية كاملة. ويعني ذلك أنه وحتى عند نجاح المساعدات الغذائية في تحقيق الأهداف المرجوة من قبل وكالة المعونة فإنه سيكون لها آثار سياسية وإقتصادية أخرى. في شهر مايو لعام 2004 نجح عمال الإغاثة في تقليل حدة مشاكل سوء التغذية ومعدل الوفيات بدارفور ولكن أدت المساعدات الغذائية إلى توسع هائل لثلاثة شركات نقل ذات صلة بالحكومة. ما هو دور هذه الشركات الآن؟ من يعمل على نقل المساعدات الغذائية حاليا وهل لديهم صلات بجهات سياسية؟

تأتي المساعدات الغذائية مصاحبة لنطاق من السياسات والممارسات تتضمن إستراتيجيات تستهدف أكثر الناس حاجة. مع ذلك فإن ديناميات السلطة المحلية غالبا ما تعني إستبعاد الفئات الضعيفة سياسيًا أو إستقبالهم لمقدار أقل مما تم التخطيط له. تضمن الأمر في الماضي الفئات النازحة والمترحلة بالإضافة للقبائل والعشائر الضعيفة أو الصغيرة. إن إستهداف الفئات المناسبة هو جزء مهم من إستراتيجيات المساعدات الغذائية الحالية. إستنادًا على ذلك، فإن الأسئلة الأساسية هي: من يرجع له القرار أو النفوذ فيما يتعلق بسياسات الفرز ومن يمتلك النفوذ السياسي الذي يعطيه السلطة لتحديد الفئات المستهدفة بالمساعدات الغذائية. وبصورة أخص، ما هي الآثار والدروس المتعلقة بسياسة برنامج الغذاء العالمي في إستهداف الفئات الأكثر ضعفًا  بمخيمات دارفور وفيما يخص التحويلات النقدية المتفق عليها كجزء من إستراتيجية الحماية الإجتماعية القومية.

إن ممارسات قطاع المساعدات الحالية سياسية بإعتبار أنها ترتبط بالأفراد وتعمل على التأثير على أفعالهم. كمثال، فإن المساعدات الغذائية المخصصة يمكن الربط بينها وبين التربية الغذائية والصحية من أجل تعزيز المرونة.  ولكن تحويل التركيز على الأفراد يمكن أن يشغلنا عن الأسباب الهيكلية لمشكلة الجوع بالسودان والتي تعزى إلى التغيرات طويلة المدى المتعلقة بالصراعات والسياسة.  كما يعمل ذلك على تحويل عبء إدارة مشكلة الجوع إلى أكثر الفئات ضعفًا. كيف يمكن لقطاع المساعدات الإستجابة لحاجات الفئات الضعيفة دون أن يقوم بتجاهل النظام الذي عمل على خلق حالة ضعفهم أو تعزيزه.

الدور الهام للمعونات الغذائية في عمليات التأميم وتحقيق الإكتفاء الذاتي والثبات السياسي

ظلت أنظمة الحكم السودانية في صراع بين حاجاتها للمساعدات الغذائية من ناحية إقتصادية وبين رغبتها في التحكم بها سياسيًا. تم النظر إلى المساعدات الغذائية الدولية كتهديد للأمن القومي وذلك خصوصًا عندما بدأ المنظمات الدولية بتخطي هيكليات الحكومة في ثمانينات القرن الماضي. تم تصور المساعدات على أنها تضعف قبضتهم على السكان وتعمل ضد هدفهم لتحقيق الإكتفاء الذاتي بالإضافة لدعمها للحركات المتمردة.  لقد قام نظام عمر البشير خلال مجاعة عام 1991 برفض المساعدات الغذائية الدولية إبتداءًا، مع تغيير موقفه لاحقا لمحاولة السيطرة عليها من خلال الإتفاقيات الدولية وتصاريخ السفر وإجراءات حظر الوصول.  لقد كانت مفوضية المساعدات الإنسانية الجهة الحكومية الأساسية المشرفة على المساعدات الغذائية وقد تضمن تشكيلها وكلاءًا من جناح الأمن القومي والإستخبارات العسكرية.

يعتبر التأميم جزءًا مهمًا من عملية السيطرة ويعود أصله لثمانينات القرن الماضي ولكنه قد صار بارزًا بصورة أكبر في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. تضمن هذه السياسة مخزونا إستراتيجيًا قوميًا بالإضافة إلى مساعدات غذائية حكومية والتي كانت ممكنة في بداية القرن الحادي والعشرين نسبة لإيرادات النفط واللجان الشعبية. لم يتمكن المخزون الإستراتيجي من تحقيق إستقرار لأسعار الطعام لكنه أفاد التجار الكبار والوسطاء. قام عمال الإغاثة في بعض الأوقات بالشراء من المخزون الإستراتيجي دون معرفة عن طريق مقاوليهم.  أما الطعام نفسه فقد تم إستغلاله بعمليات توزيع حكومية مدفوعة سياسيًا. يبدو أن للحكومة الإنتقالية أيضا مخططات لمخزون إستراتيجي جديد.  لقد كانت اللجان الشعبية المنشاة بعهد البشير وسيلة لنشر الأفكار الإسلاموية والعمل على جمع التأييد السياسي على المستويات المحلية- بصورة جزئية عن طريق الطعام.  أما وبعد ثورة 2019 فقد حلت مكان اللجان الشعبية وهي تعمل الآن على توفير السلع الغذائية المدعومة في أسواق البيع المخفض. ماهي مخططات الحكومات الحالية وأفكارها فيما يتعلق بالسيطرة على المساعدات الغذائية الدولية وفي إنشائها لجهازها الشخصي الخاص بالمعونات الغذائية؟  أيهما سيطغى على الآخر- الضروريات السياسية أم الإنسانية؟

_______________________________

فيما عدا المواضع التي يتم الإشارة إلها فإن جميع محتويات هذه المدونة مستندة على كتاب سوزان جاسبرز والذي عنوانه: المعونات الغذائية في السودان. تاريخ للساسة والسلطة والربح. 2018. شركة زيد بوكس للنشر.

سوزان جاسبرز- باحث مستقل وباحث مشارك بقسم الدرسات الغذائية بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن

يوسف الطيب – المدير التنفيذي بمنظمة تنمية وإعادة إعمار دارفور