بقلم أودري بوتجن
Audrey Bottjen
“من أكثر مآسي السودان مرارة أن المعضلات التي تواجه المنظمات الإنسانية اليوم تقريباً هي بالضبط تلك التي واجهتها مراراً وتكراراً على مدى السنوات العشر الماضية … ولكن بينما تعلم الجنرالات والمتمردون دروسهم، الا ان الوكالات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة لم تعي الدرس.”
فرانسوا جان (تقرير تقييم منظمة أطباء بلا حدود 1993)
هذا التحليل هو المدونة الثالثة من سلسلة مدوناتنا حول الوصول الإنساني والعمل المحلي ومعضلات حساسية النزاعات في السودان منذ أبريل 2023 والجزء الأول من سلسلة مكونة من جزأين تستكشف الدروس المستفادة من تاريخ السودان فيما يتعلق بآثار وتداعيات امكانية وصول المساعدات الإنسانية على ديناميكيات النزاعات. ويستكشف الجزء الثاني آثار هذا التحليل وتوصياته للسياسات والبرامج، وسيتم نشره قريبًا.
إن تحديات وصول المساعدات الإنسانية في السودان ليست جديدة، فقد استمرت عملية التحكم في امكانية الوصول او منعه من قبل الجهات الفاعلة في النزاع لتحقيق أجندتها السياسية والعسكرية والاقتصادية لمدة 40 عامًا على الأقل، مع ما يترتب على ذلك من آثار خطيرة على الخسائر البشرية، فضلاً عن طبيعة النزاعات في السودان.
تستجلي هذه المدونة الدروس المستفادة من تاريخ وصول المساعدات في السودان لمساعدة الجهات الفاعلة في مجال العون اليوم على استكشاف ساحة إمكانية الوصول بطريقة تراعي حساسية النزاعات. العديد من هذه المشاكل لا تقتصر على السودان (يتم هنا استكشاف الدروس المستفادة من سياقات أخرى متوترة، مثل سوريا واليمن وميانمار وإثيوبيا)، إلا ان الطريقة التي تظهر بها تتأثر بتاريخ السودان وجغرافيته وموارده الخاصة.
التحكم في عملية وصول المساعدات كاستراتيجية عسكرية – عملية شريان الحياة للسودان
لقد كان التحكم في وصول المساعدات الإنسانية، وكذلك تحركات الأشخاص والموارد بشكل عام، هدفًا عسكرياً مهماً في معظم حروب السودان الماضية، إن لم يكن كلها. وقد تم استخدامه في استراتيجيات مكافحة التمرد التي تهدف إلى إخلاء المناطق المعادية، أو كأداة لتوجيه الموارد التي يمكن بعد ذلك فرض ضرائب عليها أو نهبها، أو كعامل جذب لجلب النازحين داخليًا إلى المناطق التي يمكن السيطرة عليهم فيها بسهولة أكبر.
لم تكن مجاعة بحر الغزال في الفترة 1988-1989 التي أدت إلى بداية عملية شريان الحياة للسودان نتيجة ثانوية عرضية لحرب 1983-2005، بل كانت جزءاً من استراتيجية إخلاء المناطق الداعمة للجيش الشعبي لتحرير السودان، وبالتالي حرمان التمرد من المصادر الرئيسية للقوت والتجنيد.[i]
سعت عملية شريان الحياة، في بدايتها، إلى تحسين الوصول من خلال إنشاء “الممرات الآمنة” التي يمكن للعاملين في المجال الإنساني من خلالها تقديم المساعدات بأمان. وعلى الرغم من التحديات،[ii] فقد أدت المبادرة إلى اتفاق ثلاثي مبتكر للوصول بين الأمم المتحدة وحكومة ذات سيادة وجماعة متمردة. وبموجب هذا الاتفاق، تم التفاوض على وصول المساعدات الإنسانية إلى الحركة الشعبية/ قطاع الشمال وتسليمها عبر الخرطوم، كما تم التفاوض على الوصول إلى ما يعرف الآن بـ(دولة) جنوب السودان مع الجيش الشعبي لتحرير السودان وتم ايصال المساعدات عبر كينيا.[iii] ومع ذلك، فقد فشلت المفاوضات بشأن تقديم المساعدات إلى منطقتي جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، وتم استبعادهما من عملية شريان الحياة.
وكما هو الحال في مجاعة بحر الغزال السابقة، اقترنت القيود المفروضة على الوصول إلى جبال النوبة بالعنف العسكري وعنف الميليشيات القائمة على أساس عرقي، وكان الهدف منها العمل كاستراتيجية لمكافحة التمرد، مما يؤدي بشكل أساسي إلى تجويع السكان وإرغامهم على الاستسلام ومنعهم من إطعام أو إيواء حركات التمرد. وكجزء من الاستراتيجية العسكرية، طلبت الحكومة من وكالات الأمم المتحدة تقديم المساعدة داخل “معسكرات السلام” التي تسيطر عليها الحكومة. وقد أنشأت الدولة هذه المعسكرات لاستقبال النازحين والسيطرة عليهم واستغلالهم لمنعهم من دعم المعارضة أو الانضمام إليها. “من خلال وعود الغذاء، يمكن للحكومة أو الفصائل المتمردة استدراج المدنيين إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها والاحتفاظ بهم، مما يزيد من وزن الحجج المستمرة للحصول على المزيد”.[iv] وقد أدى ذلك إلى انتقادات مفادها أنه من خلال تقديم المساعدات في مناطق سيطرة الحكومة فقط، وبالتالي السماح لأحد طرفي النزاع بالحصول على منفعة عسكرية، أدى ذلك إلى فقدان قطاع المساعدات مصداقيته تجاه مسألة الحيادية.[v]
إن وصول المساعدات الإنسانية إلى دارفور في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يسلط الضوء على مجموعة مختلفة، ولكنها على نفس القدر من الأهمية من الآثار العسكرية المترتبة على الوصول. ونظراً لأنه كان مطلوباً من المنظمات غير الحكومية أو وكالات الأمم المتحدة العاملة في الخرطوم الحصول على أذونات وتصاريح لموظفيها المحليين من الاستخبارات العسكرية أو مفوضية العون الإنساني، فقد تم افتراض مفاده أن بعض العاملين في المجال الإنساني كانوا عملاء حكوميين سريين. لذلك استشعرت الجماعات المتمردة أن جهود المساعدات لم تكن مستقلة أو محايدة، فمنعت العديد من المنظمات غير الحكومية من الوصول إليها، وطلبت أسماء جميع الجهات الفاعلة في مجال العون قبل منحها إذن الوصول.[vi]
السياسة وامكانية الوصول – برنامج جبال النوبة للنهوض بتحويل النزاع
كما أن لوصول المساعدات الإنسانية آثاراً سياسية في السودان، بالمقابل، فقد أثرت السياسة على وصول المساعدات الإنسانية، حيث أن القرارات المتعلقة بمتى وأين ومع من يتم التفاوض بشأن الوصول يمكن أن تمنح الجهات الفاعلة السلطة لتقرر بشأن أين تذهب المساعدات، وأن تبني شرعيتها ومصداقيتها. ولا يتعلق هذا بالتعامل مع الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية فحسب، بل يتعلق أيضًا – بشكل خاص في سياق تحول الحالة الفوضوية – بمن يتم تمكينه داخل المؤسسات. لقد كان لدى الجهات الفاعلة داخل الحكومة السودانية دائمًا مجموعة من المصالح والطموحات، خاصة بين المستوى الوطني وعلى مستوى الولايات والمحليات، وقد تسارعت وتيرة هذا التوجه في الأشهر الأخيرة، لذا فإن إدارة هذا التعقيد السياسي تتطلب مبادئ قوية.
يسلط برنامج جبال النوبة لتعزيز تحويل النزاع في الفترة من 2002 إلى 2007 الضوء على كيفية استخدام المبادئ بفعالية للمساهمة في امكانية وصول مجديٍ وتقليل تأثير النزاعات على السكان المتضررين.[vii] يتناقض نهج البرنامج تجاه المبادئ، المبينة في الجدول 1، بشكل ملحوظ مع عملية شريان الحياة، والتي لم يكن المقصود منها أن يكون لها أي تفاعل مع دوافع السلام أو النزاع.[viii]، تم دعم البرنامج من خلال تفويضه بمعالجة الأسباب الجذرية للنزاع والمشاركة القوية لأصحاب المصلحة والمجتمع المحلي وكذلك الدعم الدبلوماسي رفيع المستوى.
ومن الجدير بالذكر، من منظور امكانية الوصول، انه “لم يتم إنهاء الحظر الإنساني على جبال النوبة من خلال المفاوضات حول وصول المساعدات الإنسانية، وإنما من خلال الضغط الدبلوماسي…”[ix]، حيث انه وإيماناً منهم بأن الحرب لا يمكن كسبها وأنه من الممكن اتخاذ خطوات نحو مفاوضات السلام، فقد تفاوض الدبلوماسيون حول سلسلة من إجراءات بناء الثقة، والتي شملت جوانب الوصول. كان من الأمور الحاسمة لنجاح هذا النهج البرنامجي والدبلوماسي في الوصول، وجود نظام مرن للرصد والإبلاغ، وبعثة المراقبة المشتركة/ اللجنة العسكرية المشتركة، التي تضم القوات المسلحة السودانية، والجيش الشعبي لتحرير السودان وأعضاء دوليين يتمتعون بسلطة الموافقة على رحلاتهم الجوية، وتفويض التحقيق والرد على انتهاكات وقف إطلاق النار.
الاقتصاد والوصول – 1983-1986
يمكن للعوامل الاقتصادية أن تسبب النزاعات وتديمها، ويتفاعل وصول المساعدات الإنسانية مع الاتجاهات الاقتصادية على المدى القصير والطويل. فمن ناحية، يمكن الوصول إلى المناطق تشكيل أنماط تدفقات الموارد. ويرتبط هذا بشكل واضح بموارد المساعدات نفسها، لكن التأثيرات الاقتصادية المتموجة الناجمة عن عمليات المساعدات تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، بما في ذلك التأثيرات على اقتصادات نقاط التفتيش، والجهات المسلحة التي تفرض الضرائب على المساعدات أو تقوم بنهبها، وغير ذلك من السلوكيات الريعية.[x]
ومن ناحية أخرى، فإن الحرمان الاستراتيجي من الوصول يمكن أن يكون له آثاراً ضارة. فقد أدت أنماط الحرمان من الوصول في الفترة من 1983 إلى 1986 إلى تحول كبير في الثروة بعيدا عن المناطق الريفية ونحو اقتصاد نخب الخرطوم السياسية المهيمن عليه من قبل الجيش.[xi]
يصف جوشوا كريز ما يحدث بعدة طرق:
لقد كانت الأبعاد الاقتصادية لمنع الوصول سمة من سمات العديد من النزاعات منذ ذلك الوقت، من قبل جهات فاعلة مختلفة بما في ذلك الجيش الشعبي لتحرير السودان، واستمرت في تحريك الاتجاهات التي تؤدي إلى النزاعات والتعرض لها. إن فهم الآثار الاقتصادية والمعيشية المترتبة على وصول المساعدات الإنسانية سيساعد الجهات الفاعلة المعاصرة في مجال المساعدات على تصميم استراتيجيات ومبادرات تخفف من بعض هذه التحديات.
[i] Human Rights Watch. Crises in Sudan and Northern Uganda. 1998. Access article here.
[ii] Including substantial numbers of flight bans restricting humanitarian access to many areas and a number of government attacks on relief centers.
[iii] There are far more legacies of this agreement and the modalities of how OLS was implemented than can be covered in this short analysis. For more analysis, suggested readings include: Leben Moro’s piece, Bradbury maybe?
[iv] Peterson, Scott. Me Against My Brother: At War in Somalia, Sudan and Rwanda. Routledge. 2014.
[v] Bradbury, Mark. Sudan: International Responses to War in the Nuba Mountains. Review of African Political Economy. 1998.
[vi] Loeb, Jonathan. Talking to the Other Side: Humanitarian Engagement with Armed Non-State Actors in Darfur, 2003-2012. HPG Working Paper. ODI. 2013
[vii] Costa, Mauro. Two Areas Context Course for Aid workers. Conflict Sensitivity Facility. 2023.
[viii] Pantuliano, Sara. Responding to Protracted Crises: The Principled Model of NMPACT in Sudan.
[ix] Bradbury and Eldin, Evaluation of the Nuba Mountains Programme Advancing Conflict Transformation (NMPACT), 24
[x][x] While this study is focused on South Sudan, it is very relevant to analysis of checkpoints in Sudan as well. https://www.csrf-southsudan.org/repository/checkpoint-economy-the-political-economy-of-checkpoints-in-south-sudan-ten-years-after-independence/
[xi] Craze, Joshua. Displacement, Access and Conflict in South Sudan: A Longitudinal Perspective. Conflict Sensitivity Resource Facility. 2018.
[1] While this study is focused on South Sudan, it is very relevant to analysis of checkpoints in Sudan as well. https://www.csrf-southsudan.org/repository/checkpoint-economy-the-political-economy-of-checkpoints-in-south-sudan-ten-years-after-independence/
[2] Craze, Joshua. Displacement, Access and Conflict in South Sudan: A Longitudinal Perspective. Conflict Sensitivity Resource Facility. 2018.
[3] Costa, Mauro. Two Areas Context Course for Aid workers. Conflict Sensitivity Facility. 2023.
[4] Pantuliano, Sara. Responding to Protracted Crises: The Principled Model of NMPACT in Sudan.
[5] Bradbury and Eldin, Evaluation of the Nuba Mountains Programme Advancing Conflict Transformation (NMPACT), 24
[6] Loeb, Jonathan. Talking to the Other Side: Humanitarian Engagement with Armed Non-State Actors in Darfur, 2003-2012. HPG Working Paper. ODI. 2013
[7] Peterson, Scott. Me Against My Brother: At War in Somalia, Sudan and Rwanda. Routledge. 2014.
[8] Bradbury, Mark. Sudan: International Responses to War in the Nuba Mountains. Review of African Political Economy. 1998.
[9] There are far more legacies of this agreement and the modalities of how OLS was implemented than can be covered in this short analysis. For more analysis, suggested readings include: Leben Moro’s piece, Bradbury maybe?
[10] Human Rights Watch. Crises in Sudan and Northern Uganda. 1998. Access article here.
[11] Including substantial numbers of flight bans restricting humanitarian access to many areas and a number of government attacks on relief centers.