لقد ظلت المعونات الغذائية لفترة طويلة جزءا من اقتصاد السودان السياسي، سواء كان ذلك على شكل دعم لميزانية الحكومة أو كسبيل للمحافظة على الحلفاء السياسيين أو لإطعام الجنود وحرمان الأعداء من الغذاء.
وجدت الجهات ذات السلطة والمؤسسات طرقا عديدة للاستفادة من المعونات الغذائية وعملية حرمانها. وتشكل ثورة عام 2019 والتحول السياسي فرصة للتغيير وتحقيق أقصى قدر من الآثار الإيجابية للمعونات الغذائية مع التغلب على بعض مساوئ الماضي. ويعتبر هذا الأمر ذا أهمية خاصة في عصر الأزمات السياسية والاقتصادية والإنسانية وفي الاستجابة الدولية التي تلعب فيها المعونات الغذائية ودعم الأمن الغذائي دورا كبيرا. غاية هذا التقرير هي تقديم تحليل تمهيدي عن التغيرات في الاقتصاد السياسي للمعونات الغذائية منذ الثورة بالإضافة لمساعدة عمال الإغاثة على التعامل مع معضلات توزيع المعونات الغذائية داخل السودان.
نجد في وسط أزمات السودان العديدة أن 13.4 مليون شخص بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، في حين يحتاج 8.2 مليون شخصا إلى دعم الأمن الغذائي. يقع الأفراد الأكثر نقصا في الأمن الغذائي على أطراف البلاد ومن ضمنهم نجد أن الأكثر تأثرا هم النازحون واللاجئون والقاطنون في المناطق القابعة تحت سيطرة المتمردين. ويقوم عمال الإغاثة بتقديم المساعدة كعون إنساني وعلى شكل دعم لبرامج شبكة الأمان الحكومية بالإضافة إلى دعم استيراد القمح من أجل تعزيز الأمن الغذائي بصورة أكبر. هنالك حاجة بالغة لهذه البرامج من أجل مجابهة الأزمات الإنسانية والاقتصادية.
لقد بين التاريخ السوداني أن من الممكن استعمال المعونات الغذائية كمورد لكسب الولاءات السياسية وتوسيع اللامساواة، ولذلك فإن بإمكانها التأثير على توازن السلطة داخل الحكومة الانتقالية بالإضافة لما يتعلق بتطبيق اتفاقية سلام جوبا. ويبدو أن البرامج الحكومية الممولة من المانحين تتبع مسيرة تاريخية تعطى فيها الأولوية لسكان الحضر- وهو أمر متفهم نسبة لأن تظاهراتهم تشكل الخطر الأول على الانتقال السياسي، ولكن يبقى الأمر أنهم ليسوا الأكثر نقصا في الأمن الغذائي. إن التمويل للمساعدات الإنسانية ناقص بصورة تتجاوز فدرة شبكة أمان مزود الخدمة المالية، وهو ما يجعل من المحتمل مساهمتها في توسيع اللامساواة التي تسعى اتفاقية سلام جوبا والانتقال السياسي إلى مجابهتها. أما عامل آخر فهو أن منح عقود تحصيل المعونات الغذائية ونقلها قد كان وسيلة لكسب الولاءات السياسية من قبل النظام السابق. وعلى الرغم من أنه قد تم حل النظام السابق فإن كثيرا من أصحاب المرتبطين بالنظام السابق لا يزالون مهيمنين على السوق، مع امتلاكهم الآن للقدرة على دعم المكون العسكري من الحكومة. لا بد من أن تتم مراقبة ما إذا كانت المستويات الحالية لتحصيل المعونات الغذائية في السودان تساهم في تعزيز الأزمة الاقتصادية. ولا يزال من المبكر استبيان استعمال المعونات الغذائية كمورد سياسي في اتفاقية سلام جوبا. من الوارد أن تبرز أهمية المعونات الغذائية في دورها في دعم محافظة الموقعين على الاتفاقية أو للجهات المستفيدة من .
تلعب المعونات الغذائية دورها أيضا في الاقتصاد السياسي على مستوى الممارسات الجزئية. يمكن أن تتأثر مفاوضات إتاحة المعونات وتقييمات الحاجة والضعف وعمليات التحصل والنقل ونشاطات التوجيه والتوزيع جميعها والتحريف وجهود اقصاء المجموعات. لقد تحسن مدى التصديق الرسمي للاتاحية في عام 2021 ولكن لا يزال الوصول إلى المناطق القابعة تحت سيطرة المتمردين أمرا صعبا وذلك نسبة للإجراءات البيروقراطية وإمكانية استعمال طرق وسائقين محددين لا غير.
ومع ارتفاع أسعار الطعام في تلك المناطق فإن ذلك يزيد من احتمالية استفادة البعض اقتصاديا أو سياسيا. كما تعيقعلى المخيمات والقرى والمخازن في دارفور إتاحة الوصول. وتتضمن الإجراءات الموجهة لأجل مجابهة الآثار السياسية المحتملة نتيجة العمل مع شركات ذات صلة بالجيش: تنويع الممونين (أو المزادات الدولية في حال القمح)، واستعمال عربات النقل والشراء المباشر من المزارعين الصغار، بالإضافة إلى التنسيق مع لجنة إزالة التمكين التابعة للحكومة. أما فيما يتعلق بالتوجيه والتوزيع، فقد كان للجان المقاومة والمجموعات النسائية دور إيجابي هام في نشر حس المسؤولية لدى مشايخ المجموعات النازحة والإدارة الأهلية وعمال الإغاثةلقد تم تغيير معظم لجان الاغاثة منذ الثورة. ولكن استهداف نسبة من السكان المتأثرين بالأزمة في بيئة سياسية عالية التغيير يعرضنا لخطر التحريف والإقصاء بالإضافة لتعزيز عدد من علاقات السلطة القديمة والجديدة.
لقد تحولت السلطة للتحكم في المعونات الغذائية منذ الثورة من يد الحكومة إلى يد أجهزة المعونة الدولية وعلى وجه التحديد برنامج الغذاء العالمي ومانحوه. ولقد ظل السودان منذ القدم في صراع مع جهات الإغاثة الدولية حول التحكم في المعونات الغذائية والفئات التي تتلقاها. وتم النظر إلى عمال الإغاثة الدوليين في معظم العقود الثلاثة الماضية على أنهم خطر للأمن القومي يجب التحكم فيه عن طريق منع إتاحة الوصول بالإضافة للتصديق على تقييماتهم (وتقسيم الطعام) والاتفاقات الدولية وعن طريق تصاريح السفر وغيرها. لقد تم تعبئة مفوضية المعونة الإنسانية- وهي الوكالة الحكومية الأساسية- لحد كبير عن طريق طواقم الأمن القومي والاستخبارات العسكرية. وبحلول مطلع الألفينات، قامت حكومة السودان بإنشاء مخزون احتياطي إستراتيجي من الحبوب. وهو ما مكن الحكومة من توزيع الغذاء لأغراض سياسية. أما في عام 2021 فإن هنالك القليل من التخطيط والتفكير الحكومي فيما يتعلق بالمعونات الغذائية، فيما عدا استقبال كل من يزودهم بها (وهو في معظمها برنامج الغذاء العالمي). إن مفوضية المعونة الإنسانية في تحول. ومن الصحيح أن كثيرا من المنظمات تشترك في توزيع الطعام ولكن يبقى برنامج الغذاء العالمي هو الأكبر وهو العامل الأساسي في كل جوانب المعونة الغذائية. ومع أن ذلك يمنحنا بعض المزايا فيما يتعلق بالتوافق وتوحيد المناهج، فإن له بعض المساوئ المتعلقة بإنشاء مناهج محددة السياق مبنية على المعرفة المحلية من أجل مجابهة التحديات التي تم تسليط الضوء عليها أعلاه. كما يعرضنا ذلك أيضا لنتائج عكسية من الحكومة (كما حدث في ثمانينيات القرن الماضي) تأتي على شكل تنظيمات أضيق. كما يسمح التركيز على الأمور التقنية والنقص في رقابة المعونات الغذائية من قبل الجانب المدني من الحكومة للآخرين باستغلالها بصورة سياسية.
ينتهي التقرير بتوصيات عن البرمجة المراعية للنزاعات ويتضمن ذلك أهمية التمويل المتواصل للاستجابة الإنسانية وبرنامج الدعم العائلي، لكن مع التأمل في الخيارات المتاحة وتقبل المعضلات الأخلاقية والمبادئ المتعارضة إضافة إلى الحاجة إلى جمع معلومات لأجل تأسيس تأملنا عليها. وتحتوي أيضا توصيات محددة لنظم وممارسات لتغييرات مستقبلية مثل التوفيق بين مبادئ قطاع المساعدات الإنسانية والأهداف السياسية المتنافستين. وجانب آخر هو التأسيس على تنوع العاملين المشاركين في صنع القرار مع تطوير إجراءات مناسبة فيما يتعلق بالغذاء والتأسيس على آليات المحاسبة الجديدة التي تم تقديمها من قبل لجان المقاومة والحركات النسائية.
أخيرا، فإن هناك حاجة إلى تقييم ومراقبة وعمل بحوثات في الآثار السياسية والاقتصادية غير المقصودة للمعونات الغذائية ودعم الأمن الغذائي على المستويين الكلي والجزئي.
إننا في حاجة إلى برامج المعونة الغذائية وبرامج الأمن الغذائي من أجل المساعدة في مجابهة الأزمات الإنسانية والاقتصادية. إلا أنه سيكون لها دائما آثار غير متقصدة، حتى في الحالات التي تنقذ فيها الأرواح وتدعم معيشة الناس. إن ضخ الموارد في سياق نزاعات ذي موارد محدودة سيتضمن بلا محالة التفاعل مع معضلات أخلاقية ومبادئ متعارضة. إن البيئة السياسية الحالية تزودنا بفرص حقيقية من أجل تحقيق أقصى قدر من الآثار الإيجابية للمعونات الغذائية والعمل على التأكد من وصول المعونات للأشخاص الأكثر حاجة لها. وفي الوقت نفسه تزودنا بفرصة تجنب المساوئ المحتملة الكثيرة التي واجهناها سابقا. نأمل أنه وتحت البيئة الحالية ستكون هنالك مساحة لمناقشة هذه القضايا بصورة علنية وتعاونية من أجل تقليل أضرارها.
إن عملية صنع قرارات عن البرمجة الإنسانية- وبالأخص ما يتعلق بالمعونات الغذائية- يتطلب عملية تفكر وجمع أقصى ما يمكن من المعلومات من أجل تعزيز هذه العملية (سليم 2015)، وذلك بالإضافة للأدوات المناسبة والنظم والمبادئ. فإن هنالك حاجة للمعلومات ليس فقط فيما يتعلق بحدة الأزمات الإنسانية بل الآثار السياسية والاقتصادية المختلفة للممارسات المستعملة والسلطات والمؤسسات المتعاقد معها أو المتفاعلة مع الأمور. ويتطلب هذا الأمر بدوره معرفة محلية ذات سياق محدد إضافة لطرق مناسبة لتتعاون عبرها المنظمات وتعمل عن طريق المناهج الجديدة. فيما يلي عدد من القضايا التي برزت نتيجة لهذا التحليل الموجز والتي نؤمن بأن على عمال الإغاثة تركيز انتباههم وطاقتهم بصورة مفيدة عليها.
يعمل عمال الإغاثة في العصر الحالي بالسودان على تزويد المساعدات الغذائية وتدخلات الأمن الغذائي من أجل دعم التحول السياسي وفي نفس الوقت يودون أن تكون المساعدات الغذائية شكلا محايدا وغير متحيز من المساعدات الإنسانية. ومن غير الممكن أن يتواجد الاثنان في نفس الوقت ولكن ربما توجد حاجة إلى الإقرار بأنه ونسبة لتاريخ السودان الطويل الذي تم فيه تسييس المعونات الغذائية، فإنه أصبح ينظر إليها بنظرة من معظم العاملين بالسودان. لقد نظرت الحكومات السابقة لها على أنها أداة سياسية تابعة للغرب. ولا يرى عاملو الإغاثة السودانيون والمستفيدون والقطاع الخاص المعونات الغذائية على أنها محايدة وغير متحيزة. فقد عنى انعدام الوصول إليها أنها ذهبت إلى جانب واحد مع استثناء مجموعات معينة بصورة متكررة (مثالها العرب والمجموعات المترحلة). وقد استفاد منها التجار وعاملو النقل القريبون من الحكومة وتم استعمال المعونات الغذائية من أجل تشجيع العمل والمرونة والأرباح (جاسبرز 2018). إن عمال الإغاثة يعملون تحت إطار هذه الخلفية المعقدة في التفاعل مع آثار المعونات الغذائية السياسية وأهدافها في دعم الانتقال وتقديم المساعدة وفقا للحاجة(الحيادية). من أجل دعم هذه العملية فإننا نوصي ب:
استثمارات المانحين والمنظمات في فهم الاقتصادات السياسية في المناطق التي نعمل بها والكيفية التي أصبحت بها المعونات الغذائية جزءا من هذا الأمر. من الممكن أن يكون ذلك عبر نظم التقييم والمراقبة الخاصة بالمنظمات أو الأطراف الثالثة والتحليل العنقودي عن طريق ال (مثاله تحليل عن طبيعة الإقصاء والشمول في ممارسات التوزيع وآثارها على العلاقات السلطوية) أو عن طريق المبادرات على مستوى النظام.