الفصل الأول: عندما تعمل وكالات العون الإنساني على استغلال الجهات الفاعلة الوطنية فهي إنما تقوّض انتقال السودان إلى السلم المستدام.
تُعد المجموعات المحلية، بما في ذلك المنظمات غير الحكومية الوطنية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والإتحادات والجمعيات غير الرسمية بمثابة محفزات التغيير والتنمية في السودان. وتلك هي المساحات الإبداعية والخلّاقة التي يُبتغى فيها تحقيق المصالح الإنسانية بتفاصيلها كافة – الإقتصادية منها والسياسية والأيديولوجية والإجتماعية. وهذه المساحات لا تكون دومًا مستقلة، بل قد تكون أحيانًا – بقصد أو بغير قصد – مرهونة بمصالح أكبر. ومع ذلك، فقد ازدهرت هذه المتنفسات المدنية على مدار السنوات القليلة الماضية للمرة الأولى منذ عقود، وباتت لديها القدرة على أن تمثّل وقود الإنتقال المستمر للسودان وصولاً إلى سلام حقيقي، كما ستشهد هذه المساحات صياغة مستقبل السودان.
ومع هذا، فإن قطاع العون الإنساني كثيرًا ما ينظر إلى هذه الجهات الفاعلة ببساطة من زاوية “الشريك المنفذ المحتمل”. وتحصر الأطراف الفاعلة في مجال العون الدولي قيمة تلكم الجهات على قدرتها على تنفيذ الرؤية والإستراتيجية التي صيغت بمعزل عنها، مضافًا إليها اتباعها للتدابير اللازمة الخاصة بالبيروقراطية والمساءلة التي وضعها المانحون والمنظمات الوسيطة.
وبطبيعة الحال، فإن هذا يولي الأولوية لرؤى وتفويض المانحين أو الوكالة التي تضع الإستراتيجيات على حساب رؤية المنظمات المحلية وتفويضها. وذلك يشكّل معضلة من حيث نقطتين أساسيتين، أولاهما أن هذا يعني أن الأفكار والإسهامات القيّمة للجهات الفاعلة المحلية لن تجد حظها من التداول في أوساط مجال العون الإنساني. وعلى الرغم من توفر قطاع العون الإنساني على الكثير مما يمكن الإسهام به من حيث النظريات والمناهج والممارسات العالمية إلا أنه يكافح أيضًا من أجل المشاركة البناءة في مختلف السياقات والتحديات بالغة التعقيد، وكذا للتفاعل مع مجموعات متنوعة من الشبكات، أو التعلم والتكيف بفعالية مع مرور الوقت.
والنقطة الثانية هي أن هذا في الحقيقة يمكن أن يقوّض المنظمات المحلية وقدرتها على أداء أدوارها المنوطة بها في المجتمع السوداني. فهناك العديد من المنظمات الوطنية التي تعمل بالحد الأدنى من التمويل أو دون تمويل البتة، بل تعتمد على شبكة معقدة وكثيفة من التفاعلات والتوقعات والمعايير الإجتماعية الخاصة بالمساءلة والمعاملة بالمثل. ويشكّل ذلك مصدر قوة لتلك المنظمات كما يمكن أن يتسبب أيضًا في انهيارها. وبدأ ظهور التمويل بالتسبب في تغيير طبيعة عمل تلك العلاقات المعقدة؛ ويُعتبر التمويل المرتبط بالمخرجات قصيرة المدى والتي لا تتسق بالضرورة ومصالح المنظمة ولا مهامها ولا نطاق عملها من بين أكثر الإشكاليات تعقيدًا.
ولمثل هذه الترتيبات القدرة على استمالة المؤسسات المحلية ومجموعات العلاقات وسحبها بعيدًا عن أغراضها المفيدة على الصعيد الإجتماعي، وإعادة توجيهها نحو بعض الأهداف المدفوعة من الخارج. وعلى الرغم من حسن نية أهداف قطاع المساعدات الدولية، إلا أنها – إن وجدت – نادرًا ما تكون في سياقها وذات صلة مثل الأهداف الفعلية للمنظمات المحلية نفسها.
وهذا لا يعني الإفراط في إضفاء المثالية على أهداف المنظمات المحلية وغاياتها في جميع المجالات. فالعديد منها سيعمل على خدمة مصالحه الذاتية أو يروج لقيم لا تتماشى مع مبادئ قطاع المعونة، أو تستقطبه مصالح أخرى. وعلى أية حال، فإن وجود نطاق اجتماعي غني ومتنوع للمنظمات الوطنية القادرة على تحديد أجنداتها الخاصة ومتابعتها يُعد أمرًا أساسيًا لعملية الإنتقال طويلة الأجل في السودان. إن الجهات الفاعلة في مجال المعونة الدولية عندما تستغل المنظمات الوطنية سعيًا وراء مكاسب قصيرة المدى لتحقيق استراتيجياتها وأهدافها الخاصة فهي إنما تعمل فعليًا على استمالة هذه المنظمات، – وفي سياق يزداد استقطابًا – تقوّض من قدراتها وتجردها من إدراكها بمقدرتها على المشاركة في القضايا الإجتماعية والسياسية بالغة الأهمية التي تواجه السودان اليوم وتمثيلها على النحو الأمثل.
إنّ هذه المدونة هي جزء من سلسلة من المدونات التي تسعى إلى فهم معنى “التوطين” في السودان، دون اللجوء إلى المصطلحات. لمزيد من المعلومات عن التوطين في السودان وأماكن أخرى يمكنك تصفّح مركز المعرفة الخاص بوحدة حساسية النزاعات.