مقدمة
يعد مصطلح ‘مُستوطِن’ من المصطلحات المُتنازع عليها بشكل كبير، حيث يتطور باستمرار في السودان. فهو يتفاعل مع المفاهيم الأوسع للهوية، وقد يؤدي الى تأجيج النزاع خاصة في إقليم دارفور، حيث استُخدمت المصطلحات والتسميات تاريخيًا لترسيخ العنف.
يختلف معنى مصطلح ‘مُستوطِن’ وأهميته من مكان إلى آخر. ففي اللغة العربية، المُستوطِن هو شخص هاجر إلى منطقة جديدة ويعيش فيها حالياً بشكل دائمi. يمكن أن يكون لمصطلح مُستوطِن في السودان معانٍ متعددة وفقا للسياق: فعلى سبيل المثال، المُستوطِن يمكن أن يكون سودانيًا أو أجنبيًا، أو يمكن وصفه كذلك بإنه شخص استقر على أرض أشخاص آخرين فروا خلال النزاعات والحروب. إذاً فالميزة الرئيسية المحددة هي أن ‘المُستوطِن’ شخص يعيش في موطن مجموعة أخرى. ومع ذلك، وعلى الرغم من كونه غامضًا، فإن المصطلح يعمل كتوصيف، ويشكل سرد حول الغبائن التاريخية والحقوق وخصوصًا تلك القضايا المتعلقة بنزاعات الأراضي والحصول على الموارد. ويؤكد على ذلك عالم العلوم السياسية محمود ممداني بقوله: ‘استعمار المُستوطِن لا يتطلب وجود مُستوطِن فعلي، بل فقط مجموعة تُعرَّف على أنها مُستوطِنة وأخرى تُعرَّف على أنها أصيلة.ii
تهدف هذه الورقة إلى مساعدة الجهات الفاعلة في قطاع العون الانساني على فهم أفضل للطرق المختلفة لاستخدام المصطلح، نظرا للتأثير الذي يمكن أن يحدثه استخدام مصطلح “مستوطِن” على النزاع في السودان وآثاره على حساسية النزاع وأثره السياسي والاجتماعي والعرقي، والآثار المترتبة على ذلك، وماذا يعني ذلك بالنسبة لكيفية تعامل الجهات الفاعلة في قطاع العون الانساني مع المجتمعات السودانية.
لماذا يعد مصطلح مستوطِن حساسا في السودان؟
“هذه لم تعد دارمساليت، هذه دارعرب“.’ كتبت هذه العبارة على احدى جدران سوق مدينة الجنينة من قبل مليشيات الدعم السريع بعد اندلاع أعمال العنف في أبريل 2023.
تعني دار في اللغة العربية البلد او الموطن، كما في دارفور؛ موطن قبيلة الفور. تمت كتابة العبارة أعلاه بعد أيام قليلة من موجة القتل التي استهدفت أفراد قبيلة المساليت بشكل أساسي في الجنينة. هذا مثال حديث يوضح كيفية تأثير مفاهيم الوطن والسرديات العرقية على النزوح القسري في دارفور منذ عقود.
ترتبط حساسية مصطلح ‘مستوطِن’ في السودان بشكل عميق بالسياق التاريخي والثقافي والسياسي، فضلاً عن ارتباطه بالقضايا المتعلقة بالأرض والهوية والتمثيل السياسي والنزاع والنزوح القسري. وعلى الرغم من ظهور آثار النزاع الحالي بشكل ملحوظ في دارفور، إلا أن له آثاراً في جميع أنحاء السودان.
فعلى سبيل المثال، كثيرا ما يزعم الهدندوة في شرق السودان أن البني عامر إريتريون، وليسوا سودانيين، مما أدى إلى معارضة الهدندوة لحقوق البني عامر في المشاركة والتمثيل السياسي. ونتج عن ذلك اشتباكات بين الهدندوة والبني عامر في عام 2020 بشأن تعيين صالح عمار والدكتور سليمان علي كولاة لولايتي كسلا والقضارف، بدعوى أنهم ‘مُستوطِنون’. احتجت نظارات البجا على التعيينات وهددت بإغلاق الطريق الرئيسي الذ ي يربط الخرطوم ببورتسودان، أكبر موانئ البلاد، مما أثر أيضًا على استقرار الحكومة في الخرطوم. وعندما أصبحت الأحداث عنيفة، قتل العديد من الأشخاص من كلا الجانبين، مما اضطر صالح عمار إلى الاستقالة لتهدئة الوضع. وقد تمكنت الجهات السياسية في شرق السودان، على مر السنين، من تأجيج التوترات في الإقليم والتلاعب بها، وتعبئة الجماعات حول قضايا الهوية لأسباب سياسية على المستويات المحلية والوطنية.
وفي حادثة مماثلة، تم حرمان قبيلة الهوسا من الحصول على إمارة في الإدارة الأهلية، مما يتيح لهم تملك الأراضي في النيل الأزرق، لأن البعض ينظر إليهم على أنهم ‘مُستوطِنون’، مما أدى إلى نزاع دموي أودى بحياة أكثر من 400 شخص في السنتين الماضيتين، مصحوبًا بتصاعد خطاب الكراهية وإغلاق الطرق والجسور والانقسام العرقي. عقدت قبيلة الهوسا مؤتمرا قبليا في عام 2021 بهدف المطالبة بالتمثيل السياسي، وهو وضع من شأنه أن يمكنهم من الحصول على الأراضي. غضبت قبائل الفونج، وهم مجموعة من القبائل التي عاشت في النيل الأزرق لقرون وكانت لها سلطنة خاصة بها، مدعين أن الهوسا مُستوطِنون، ويجب ألا يكون لديهم حقوق أراضٍ في المنطقة. وعلى الرغم من أن الهوسا قد هاجروا إلى السودان منذ قرون، إلا أنهم لا يزالون ‘سكاناً غير أصليين’ في نظر البعض، بما في ذلك الرئيس السابق الذي أدلى بتلك التصريحات علنًا، في العام 2008
النزاع، وملكية الأراضي والنزوح في دارفور
يعتبر مصطلح مستوطن في دارفور حساساَ للغاية نظراً لطبيعة المنطقة المعقدة، وتنوعها العرقي والثقافي والاليات السياسية والاجتماعية، وتاريخ النزاع والنزوح. لدارفور تاريخ طويل من التنافس والتعاون العرقي على الموارد، خاصة الأرض، وبالتالي، يحمل مصطلح ‘مُستوطِن’ دلالات تاريخية مرتبطة بالهجرات ونزاعات الأراضي. ويشير المفهوم المحلي إلى أن بعض ‘المُستوطِنين’ حصلوا على الأرض طواعية من المجتمعات المحلية التي كانت لديها علاقات جيدة معهم؛ بينما استولى المستوطنون الاخرون على الأرض بالقوة.
تتم إدارة استخدام الأراضي في دارفور تقليديا وفق نظام الحواكير، بما في ذلك الاستيطان. والحاكورة هي طريقة توزيع الأراضي في دارفور للزراعة والرعي والسكن وفقًا للعادات الاجتماعية. يرجع تاريخ هذا المصطلح إلى عصر سلاطين الفور، كونهم هم الذين قسموا المنطقة إلى حواكير لتسهيل إدارتها، وتوزيع الأراضي لمجموعات محددة، ودرءالنزاعات حول الأراضي.iii ان وصف أي مجموعة بأنها ‘مُستوطِنة’ يعني أنها ليست أصيلة في المنطقة وبالتالي ليس لها حقوق في الحصول على الأراضي وفق نظام الحواكير. ان وصف ‘مستوطِن’ حساس للغاية، وقد يؤدي الى تأجيج التوترات بين المجتمعات، نظرًا لارتباط الأرض بالهوية، والسياسة وسبل العيش. يمكن للمجموعات التي تدعو الى اعادة توزيع الأراضي أو الاقصاء السياسي لمجموعات معينة، أن تتذرع بمفهوم ‘مُستوطِن’ كجزء من مبررات هذه السياسات.
بالإضافة إلى تلك المجموعات غير المعترف بها على الإطلاق في نظام الحواكير، هناك بعض المجموعات الرعوية التي تم الاعتراف بها باعتبارهم من السكان الأصليين، ولكنها كانت تمتلك حقوق أراضي أقل من الآخرين. ساهم هذا التفاوت في خلق المظالم التي استُغلت لأغراض سياسية ولتأجيج النزاع مما أدى إلى العديد من حالات العنف المسلح ونزع ملكية الأراضي. وقد غذت هذه التوترات طويلة الأمد اندلاع النزاع العنيف في دارفور في عام 2003، وتفاقمت بسببه. وأدت موجة نزوح مجموعات مختلفة وما تلاها من إعادة توطين مجموعات أخرى في المنطقة إلى تعقيد سردية من هم “المستوطنون” وماذا يعني ذلك بالنسبة لهويتهم وحقوقهم. لم تُنشأ جميع المستوطنات الجديدة بشكل عنيف، ولكن العديد منها كانت كذلك. وفي كثير من الحالات، لا يزال الذين نزحوا غير قادرين على العودة، وقد أدى العنف منذ أبريل 2023 إلى موجات جديدة من العنف والنزوح المؤلم. وبالتالي فإن مصطلح ‘مُستوطِن’ في هذا السياق غالباً ما يكون مشحونًا عاطفيًا، لأنه يرتبط بتجارب الذين تم تهجيرهم وفقدوا أراضيهم وسبل عيشهم .
اثار حساسية النزاع على جهات العون الإنساني الفاعلة التي تستجيب للنزاع الحالي
شهد السودان، منذ أبريل 2023، أعلى معدلات نزوح في العالم، واضطر الكثير من سكان البلاد الى الاختيار بين الاستقرار أو الانتقال الى مناطق جديدة. خلال استجابته لأزمة النزوح هذه، يمكن لمجتمع المعونة أن يساهم دون قصد في التوترات من خلال الترويج لخطاب ولغة الانقسام التي تشجع على العنف، إلا انه وبدلاً من ذلك، لديه فرصة لتعزيز اللغة المراعية لحساسية النزاعات، والتي تساهم في السلام.
إن استخدام المصطلحات غير الحساسة تجاه النزاعات يمكن أن يكون له عواقب وخيمة في مناطق النزاع. عندما يتم تصنيف مجموعات على أنها “مستوطنة”، فإن ذلك من شأنه أن يعزز القوالب النمطية والتحيزات، ويعمق الانقسامات، ويعيق إمكانية العمل المشترك من أجل السلام. وبالمقابل فإن تبني لغة شاملة ومحترمة أمر ضروري لتسهيل وتيسيرعمليات السلام الناجحة ومنع انتشار العنف بين المجتمعات. وذلك لا يعني تجاهل أو تطبيع عملية الاستيلاء بالقوة على الأراضي، ولكنه يعني الوعي بالتبعات المختلفة لوصف “مستوطن”، بما في ذلك ما يتعلق بالهويات الوطنية والمحلية، والحقوق في الأرض.
إن التصور أو الواقع بأن العاملين في مجال العون الانساني يؤيدون ويتداولون السرديات التي تصف مجموعات معينة بإنها “مستوطنة“, قد يؤثر على قدرتهم على تقديم المساعدات بشكل محايد، ويمكن أن يؤثر على الوصول إلى المناطق المتضررة من النزاع، وقد يواجه عمال العون الانساني مخاطر أمنية إذا ما تم اعتبارهم متحالفين مع مجموعة معينة أو يتخذون موقفاً سياسياً بشأن من هو أصيل (بالتالي فهو مستحق لحقوق الأرض) ومن لا يستحق ذلك. إن استخدام المصطلحات غير الحساسة تجاه النزاعات قد يؤدي إلى فقدان الثقة وتقويض جهود التنمية طويلة الأجل.
خاتمة
يحمل مصطلح “مستوطن” في السودان آثارًا سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة ضمن السياق الأوسع للهوية السودانية والنزاعات، خاصة في مناطق مثل دارفور. إن فهم المعاني السياقية ودلالات مصطلح “مستوطن” أمر ضروري للجهات الفاعلة في مجال العون الانساني ومجتمع المانحين لتجنب إثارة التوترات عن غير قصد في المجتمعات التي يعملون فيها. وفي حين أن هذا لا يعني غض الطرف عن عملية مصادرة الأراضي، فإنه يعني فهم دوافع النزاع في المنطقة لتجنب المساهمة فيها عن غير قصد. إن إدراك المعاني التاريخية والسياسية للأرض و”الاستيطان” يمكن أن يساعد الجهات الفاعلة في مجال العون الانساني على التغلب على تعقيدات النزاعات في السودان، والمساهمة في زيادة الجهود الإنسانية المراعية لحساسية النزاعات والأكثر فعالية، ومبادرات حل النزاعات وبناء السلام التي تحترم الاليات الحالية والسياق التاريخي للمناطق التي تسعى إلى مساعدتها.