للغة والمصطلحات أهمية كبيرة لوصف العالم من حولنا، وبخاصة حينما نتحدث عن النزاعات، فهي تساعدنا على بناء فهم مشترك مع الآخرين حول السياق، وتعمل على تشكيل ردود أفعالنا المعرفية والعاطفية في هذا الخصوص.
فالناخذ مثلاً في الاعتبارالاختلافات بين المصطلحات الإنجليزية:
“(house/home),(death/murder”
فلكل من هذه دلالات مختلفة تدفعنا نحو استجابات معينة. وفي سياق قطاع العون الانساني المثقل بالمصطلحات غالبًا ما ننسى أن المصطلحات التي نستخدمها لا تترجم دائمًا بدقة من لغة إلى أخرى. مما يمكن أن يؤدي إلى الارتباك وعدم الاتساق في كيفية عملنا معًا داخل المجموعات وعبر المؤسسات.
نبعت فكرة هذه المدونة من إشكالية ثنائية المصطلحات العربية المترجمة كمقابل لمفهوم،
“Conflict Sensitivity”
المستخدم في مجال العمل الإنساني، حيث يتم استخدام مفردتي “النزاع” و”الصراع” بالتبادل كمقابل لكلمة،
“conflict”
وغالباً ما ينطوي ذلك على تشويش، أثناء الورش التدريببة أو المناقشات التي تنظمها وحدة حساسية النزاعات حول النزاع فتصرف الانتباه عن مناقشات أكثر عملية حول حساسية النزاع. وكما يشير المتخصصون في مجال اللغويات والترجمة إلى تلك القضية أو الحالة بـ “فوضى المصطلحات”. فهل هناك فرق بينهما– وما مدى أهمية ذلك؟
.
فكرة النزاع “غير العنيف” في الترجمة
وجدنا آراء مختلفة حول ما إذا كان “النزاع” و”الصراع” مترادتفين لهما نفس المعنى في السودان، أو أن هناك اختلافات مهمة جديرة بالملاحظة.
إلا انه لابد من القول أولاً أن دراسات “السلام” و”النزاع” تعتبر من فروع العلوم الاجتماعية الحديثة، وقد نشأت في أوربا في ستينيات القرن الماضي ، ولم يتم اعتماد تدريسها في العديد من جامعات الدول العربية-بما في ذلك السودان- إلا في حوالي منتصف الثمانينيات[i]. ولذا فمن الطبيعي أن تكون هناك بعض المشكلات المتعلقة بالترجمة العربية للمصطلحات والمفاهيم الرئيسية.
ومن بين من يفسرونهما بشكل مختلف، يعتقد الكثيرون أن كلمة “نزاع” تعني وجود خلافات ين طرفين أو أكثر، ولكنها لا تؤدي بالضرورة إلى العنف أو القتال. وعلى النقيض من ذلك، يعتقدون أن كلمة الصراع تعني أن طرفين يتقاتلان حتى يتخلص أحدهما من الطرف الآخر. وبهذا المعنى ، تضمن كلمة “الصراع” صراعًا وجوديًا أو معركة من أجل البقاء.
تمثل هذه معضلة لمن يتحدثون عن حساسية الصراع. فمن ناحية، قد تكون كلمة “النزاع” ترجمة أكثر مباشرة للكلمة الإنجليزية
“Conflict”
ووفقًا للتعريفات المستخدمة في دراسات السلام والنزاعات الأنجلوسكسونية ، فإن مفهوم
“conflict”
لا يعني بالضرورة استخدام العنف والقوة، كما هو الحال في مفهوم “الصراع”. بينما يمكن أن تشير كلمة “النزاع” إلى أشكال المنافسة اليومية داخل الأسواق.
هذا التمييز مهم لأنه يؤكد على أهمية “حساسية النزاعات” بالعربية – في مجموعة واسعة من السياقات التي قد لا تتأثر بالضرورة بالعنف. لذا فإن استخدام مصطلح “النزاع” يساعد في تسليط الضوء على مدى أهمية المناهج المراعية لحساسية النزاعات في أسواق وسط الخرطوم كما هو الحال في مخيمات النازحين داخليًا في شمال دارفور.
احترام قوة المشاعر والعاطفة للغة في الترجمة
من ناحية أخرى، يرى آخرون أن استخدام كلمة “النزاع” للإشارة إلى بعض الصراعات يمكن أن يقلل من مدى خطورتها حينما يكون هناك خطر وجودي على أي من الطرفين، لهذا السبب فهم يفضلون استخدام كلمة “الصراع” لوصف صراعات البقاء – حيث لا يوجد فقط تضارب بين المصالح أو الأهداف، وانما كذلك تضارب بين الهويات أو التعايش.
ووفقًا لهؤلاء، فإن تسمية الحالة الإسرائيلية- الفلسطينية بـ”النزاع” من شأنها أن تلفت الانتباه من الطريقة التي يشعر بها العديد من المتورطين في هذا النزاع أنه يمثل ظلمًا عميقًا وجزءًا من استراتيجية سياسية لتغيير التكوين الديموغرافي لمنطقة ما. وبهذا المعنى، قد تكون كلمة “النزاع” مشابهة لتسمية مثل هذا النزاع بـ”الخلاف” أو “عدم الاتفاق” – وهي كلمات تخاطر بتحييد التحليل وإضفاء الشرعية على الإصلاحات الفنية. لهذا فإن قرار وصف حالة معينة بأنها “نزاع” أو “صراع” يثير بالتالي معضلة حساسية النزاع الخاصة به والتي يجب التعامل معها بحساسية تجاه بعض المستمعين/القراء.
الطريق إلى الأمام
ليس من المستغرب أن توجد مثل هذه الاختلافات في الرأي، فاللغة العربية تتميز بثرائها وتنوع مفرداتها وتعدد دلالاتها اللغوية. في حين أن الوعي بهذه الترجمات المختلفة يمكن أن يساعد على ضمان أن يكون تواصلنا وتحليلنا في حد ذاته حساسًا للنزاع، إلا أن هناك خطراً من المبالغة في تقدير هذه الاختلافات وصرف الانتباه عن التحدي المهم المتمثل في تعزيز المناهج المراعية لحساسية النزاع في الممارسة العملية.
في الحقيقة، لا تعكس القواميس العربية-الإنجليزية هذه الدلالات المختلفة اكما أشار إلى ذلك بعض الزملاء والشركاء[ii].
عند تحديد منهجنا الخاص لاحظنا أن استخدام مصطلح “حساسية النزاع” هو الأكثر شيوعاً واستخدامًا كمقابل لـ
“Conflict sensitivity”
، وأن استخدام مصطلح “النزاع” يجد القبول بصورة متزايدة وسط المنظمات العاملة في مجال العون الانساني بما في ذلك وكالات الامم المتحدة. وقد تم اعتماد هذا المفهوم من قبل “وحدة حساسية النزاعات”، كجزء لا يتجزأ من إسم الوحدة نفسها.
قد يساعد اتفاق أوسع على استخدام هذه الترجمة عبر قطاع العون في السودان على ضمان أن يكون لدينا فهم مشترك بأن حساسية النزاع مهمة في كل من النزاعات العنفية وغير العنيفة. لكن المناقشات التي أجراها فريق وحدة حساسية النزاعات داخليًا ومع الشركاء سلطت الضوء على درس أكبر – وهو أننا كمحترفين في قطاع العون الانساني، غالبًا ما يكون لدينا افتراضات وفهم مختلف حول المصطلحات الأساسية.
يمكننا جميعًا الاستفادة من التمعّن في الكيفية التي يتم بها فهمنا والفضول بشأن الرسائل الضمنية غير المقصودة التي قد نرسلها عبر الطريقة التي نتواصل بها. فهل يتم فهمنا حقًا كما نظن أو نعتقد؟
[i] مركز الجزيرة للدراسات. إدارة الصراعات وفض المنازعات، إطار نظري، 2014، انترنت، https://online.flippingbook.com/view/229234/2/ ، تمت زيارة الموقع بتاريخ فبراير 2023
[ii] وبالرجوع إلى معاجم اللغة العربية الحديثة والمعاصرة نجد انها تعّرف الصراع بالنزاع كمترادفتين، فتعرف إحداهما بالأخرى، وعلى سبيل المثال لا الحصر يورد معجم اللغة العربية المعاصر عدة مترادفات لكلمة صراع من ضمنها: خصومة ومنافسة، نزاع، ومشادّة، وكذلك تترجم المعاجم والقواميس ثنائية اللغة كلمة “conflict” بالصراع والنزاع معاً بالإضافة إلى عدة مترادفات ومعانٍ أخرى مثل: قتال، خصام، خصومة، فرق، خلاف، وتباعد، وإلى ما ذلك من المترادفات التي تصب في ذات الإتجاه